Thursday, November 22, 2012

إنها صنعة.. وليست لعبة


إنها صنعة.. وليست لعبة






شجرة الزيتون علامة مميزة لتونس.. بخضرتها توصف بلادي .. وهي عنوان بارز لأصالة الوطن وتجذره في التاريخ وعبر العصور.. أما زيت الزيتون فهو جواز سفرنا الأهم في الأسواق الخارجية من القارة الأمريكية إلى أقاصي آسيا مرورا ببلدان الخليج حتى أستراليا.  
ومن المؤكد أنه لكل من ولد أو عاش طفولته في مدينة أو قرية قريبا من غابات الزيتون حكاية جميلة.. وأنا واحد من هؤلاء.. فرغم كثرة المشاغل، فإنني غالبا ما أذهب في كل موسم لأقضي يوما واحدا على الأقل مع العائلة في جني الزيتون من الفجر إلى العصر، تماما كما كنت أفعل صغيرا حين يأخذني والدي أبقاه الله معه إلى ضيعة الزيتون الصغيرة التي ورثها عن جدي رحمه الله.. وإلى الآن أستعين بخبرة والدي في شراء ما أحتاجه من زيت زيتون لسنة كاملة.. وحتى أبنائي فقد حرصت على أن يعيشوا أكثر من مرة تجربة قضاء يوم كامل وسط أجواء جني الزيتون.. ليكتشفوا هذا العالم.. لأنه بحق عالم له تقاليده وأعرافه وطقوسه.. 
ما بقي بالذهن اليوم أن جني الزيتون طريقة حياة وليست مجرد مهنة.. هو صنعة وليست لعبة.. هكذا يراه أهله.. وهكذا يعيشونه ..ووالدي الذي ولد قريبا جدا من غابات الزيتون، والذي اشتغل بمهنة لا علاقة لها بالفلاحة.. لم يكن «يتجرأ» على القيام بنفسه بعملية الجني لأنها صنعة .. ولأنه يحترم هذه الشجرة الطيبة وثمرتها المباركة.. 
ما دفعني لإثارة هذا الموضوع هو الحديث الذي يدور الآن حول إمكانية الاستنجاد بخريجي الجامعات في موسم جني الزيتون.. ومع احترامي الكامل لأصحاب الفكرة وتقديري لحسن نواياهم، فإن هذا المقترح غير واقعي بالمرة.. فخريجو جامعاتنا ليس لهم في الغالب أدنى معرفة بجني الزيتون وإمكانية استخدامهم تفرض تكوينهم في الميدان أولا وقبل كل شيء.. وكان من المفروض أن يحصل هذا قبل فترة من انطلاق الموسم.. كذلك فإن جني الزيتون هو عمل عائلي بالأساس، أي أنه غالبا ما يقع استخدام الزوج والزوجة وبعض أفراد العائلة في العملية، ولهذا كنا نشهد خلال الموسم هجرة لعائلات بأسرها من بعض مدن الشمال خاصة، نحو الوسط والجنوب حيث تقضي بعض هذه العائلات الموسم كله تحت الخيام في مواقع العمل.. فكيف سيفعل خريجو الجامعات ؟ هل سينتقلون يوميا من وسط المدن إلى الغابات التي توجد عادة خارج المدن ؟ وفي هذه الحالة هل ستكفيهم الأجرة للتنقل والأكل والشرب؟
أنا لا أرى عيبا في أن يشتغل خريجو الجامعات في جني الزيتون.. بل هذا موجود فعلا حيث يعمل الكثير من هؤلاء في موسم جني الزيتون بصفة غير مباشرة، كسواق أو في معاصر زيت الزيتون، أو غيرها من الأنشطة المرتبطة بالموسم، وحتى في عملية الجني نفسها وهؤلاء غالبا ما يكونوا من أبناء العائلات التي لها غابات صغيرة وهم في حالة بطالة  أو أصيلي الجهات التي تنتج الزيتون بشرط توفر حد أدنى من الدراية بهذا العمل.. 
نعم هناك نقص فادح في اليد العاملة بالنسبة لموسم الزيتون الحالي.. ولكن الحل لا يكمن في استخدام خريجي الجامعات لسد الفراغ بهم.. بل كان من الأجدر البحث عن أسباب العزوف عن ممارسة هذا النشاط .. والبحث لها عن علاج قبل فترة طويلة من انطلاق الموسم وليس الآن.. 
لقد رأى العديد من خريجي الجامعات في هذا المقترح إهانة لهم.. واستخفافا بجهودهم وبسنوات الدراسة الطويلة التي أنهوها بعرق وشقاء أوليائهم وتضحياتهم الجسيمة.. ومن حقهم أن ينظروا إلى الأمر على هذا النحو.. أما أنا فأرى أن هذا المقترح غير واقعي، ولست متأكدا من أن الذين طرحوه مقتنعون به ورأوا فيه حقا حلا ولو ظرفيا لمعضلة بطالة أصحاب الشهادات الجامعية .. 
النتيجة الوحيدة المؤكدة حتى الآن أن هذا المقترح تحول على صفحات المواقع الاجتماعية إلى موضوع للتنكيت والمزاح والترفيه.. 
هكذا نحن التونسيون.. من رحم المشاكل والمعاناة نختطف بسمة نخفف بها من وطأة واقعنا الأليم أحيانا.. 

0 comments:

Post a Comment