Thursday, November 22, 2012

أمن بلا لون



أمن بلا لون





توقّع الكثير من الخبراء أن عملية تأقلم المؤسسة الأمنية التونسية مع الأوضاع الجديدة للبلاد بعد 14 جانفي 2011 لن تكون هيّنة بالمرة. وأكد البعض أن كل فصول ومراحل عملية الانتقال الديمقراطي تظل رهينة النجاح في التعامل مع المسألة الأمنية، وأنه لا يمكن الحديث عن تجربة ديمقراطية ودولة قانون ومؤسسات، دون مؤسسة أمنية منسجمة وفاعلة ومستوعبة لدورها كأحد أهم ركائز النظام الجمهوري الذي لا مكان فيه للتسلط والاستبداد، على أن تبقى هذه المؤسسة بعيدة عن كل أشكال التجاذبات السياسية .
واليوم وعلى ضوء ما عاشته بلادنا من أحداث وتطورات في الفترة الأخيرة، فإنه لا مفر من تقليب كل ورقات الملف الأمني الوطني، في كنف الهدوء والمسؤولية وطرحها على بساط الدرس والحوار بين كل المعنيين بهذا الموضوع. 
أول ورقات هذا الملف تتعلق بقضية توفير الحماية القانونية لرجل الأمن خلال قيامه بعمله، وهي التي دفعت بنقابات الأمن بمختلف اختصاصاتها إلى الاحتجاج معتبرة أن الإطار القانوني الذي يتحرك على أساسه رجل الأمن غير واضح وغير كاف، على عكس موقف سلطة الإشراف والقائمين على الوزارة الذين يرون أن المعمول به الآن من قوانين يفي بالغرض. وهي نقطة لا بد من حسمها بالاعتماد على تجارب البلدان الديمقراطية وعلى المعايير الدولية المعمول بها في هذا الشأن. ولا مفر من الحوار بين النقابات وسلطة الإشراف للاتفاق على مرجعيات توضح هذه المسألة بصفة نهائية. وهذه النقطة تحيل بدورها إلى قضية التمثيل النقابي في أجهزة الأمن، إذ يبدو أن هناك مشكلا في هذا الخصوص بسبب تعدد النقابات وحتى تشرذمها. بل أن العلاقة بين الإدارة وبعض الفصائل النقابية بدت متوترة أحيانا، وهو ما يفرض على رجال الأمن البحث عن أفضل السبل لتوحيد نقاباتهم وتفويض من يتحدث باسمهم ويتفاوض حول مطالبهم، والابتعاد أقصى ما يكمن عن التشتت والزعامات.
 المسألة الثانية تتعلق بعلاقة رجل الأمن بالمواطن.. ففي الوقت الذي تهيأ لنا أن عملية ترميم وإصلاح هذه العلاقة قد انطلقت ولو باحتشام، جدت بعض الوقائع المتفرقة التي أبرزت مدى تعقد هذه العلاقة والحمل الثقيل الذي ترزح تحته (أخبار عن تواصل ممارسة التعذيب في بعض مراكز الأمن، حادثة اغتصاب فتاة من قبل أعوان أمن، الاعتداء على أعوان أمن وتهديد عائلاتهم وغيرها..) رغم أن أكثر من قيادي في نقابات الأمن أكد أنها تظل وقائع معزولة وفردية لا يجب مطلقا تعميمها والحكم انطلاقا منها على سلوك رجل الأمن. 
وليكن واضحا أنه لا أحد توهّم بأن العلاقة بين رجل الأمن والمواطن ستتغير بين عشية وضحاها. ذلك أن بناء علاقة جديدة بينهما يتطلب وقتا طويلا، وثقافة مغايرة وجهدا متواصلا، لأن تغيير العقليات لا يبنى إلا من الأساس وعلى امتداد سنوات. وهذا ما يطرح بكل إلحاح موضوع تكوين رجل الأمن، وكذلك تكثيف جهود وحملات تحسيس عموم المواطنين بصعوبة مهمة رجل الأمن وبضرورة احترامه ومساعدته على أداء واجبه. وهذه ثقافة لا تكتسب في أيام بل إنها تبنى لبنة لبنة. 
وإذا كان لا بد من تشبيه لأوضاع المؤسسة الأمنية ببلادنا اليوم، فإن الصورة الأقرب إلى ذهني هي صورة طائرة في الجو تؤمن رحلة يعلم طاقم الطائرة أنها ستمر بـ«مطبات» هوائية عديدة وقوية أحيانا. وأن الرحلة ستتطلب من هذا الطاقم برودة أعصاب متناهية وجهودا إضافية، للتعامل مع حالات الذعر والخوف التي قد تصيب بعض الراكبين إلى حين الوصول إلى بر الأمان. ووصول التونسيين بثورتهم إلى بر الأمان يمر أول وقبل كل شيء بأداء المؤسسة الأمنية لدورها على أحسن وجه، بعد أن نوفر لها ما يلزم من أدوات وآليات وضمانات. 
لقد انتفض التونسيون من أجل الكرامة والحرية ودفاعا عن حقوقهم التي انتهكت لعقود. ولا شيء يمكن أن يتحقق على هذا الدرب دون مؤسسة أمنية جمهورية قوية منسجمة ومحايدة تحمي كل التونسيين مهما كانت انتماءاتهم وحيثما كانوا في ربوع الوطن، بقوة القانون ولا شيء سواه، مهما كان لون الحكومة التي تحكم. 

0 comments:

Post a Comment